فصل: ثم دخلت سنة ثلاث وستين وأربعمائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


  ثم دخلت سنة سبع وخمسين وأربعمائة

  ذكر الحرب بين بني حماد والعرب

في هذه السنة كانت حرب بين الناصر بن علناس بن حماد ومن معه من رجال المغاربة من صنهاجة ومن زناتة ومن العرب‏:‏ عدي والأثبج وبين رياح وزغبة وسليم ومع هؤلاء المعز بن زيري الزناتي على مدينة سبتة‏.‏

وكان سببها أن حماد بن بلكين جد الناصر كان بينه وبين باديس بن المنصور من الخلف وموت باديس محاصرًا قلعة حماد ما هو مذكور ولولا تلك القلعة لأخذ سريعًا وإنما امتنع هو وأولاده بها بعده وهي من أمنع الحصون وكذلك ما استمر بين حماد والمعز بن باديس ودخول حماد في طاعته ما تقدم ذكره وكذلك أيضًا ما كان بين القائد بن حماد وبين المعز وكان القائد يضمر الغدر وخلع طاعة المعز والعجز يمنعه من ذلك فلما رأى القائد قوة العرب وما نال المعز منهم خلع الطاعة واستبد بالبلاد وبعده ولده محسن وبعده ابن عمه بلكين بن محمد بن حماد وبعده ابن عمه الناصر بن علناس بن محمد بن حماد وكل منهم متحصن بالقلعة وقد جعلوها دار ملكهم‏.‏

فلما رحل المعز من القيروان وصبرة إلى المهدية تمكنت العرب ونهبت الناس وخربت البلاد فانتقل كثير من أهلها إلى بلاد بني حماد لكونها جبالًا وعرة يمكن الامتناع بها من العرب فعمرت بلادهم وكثرت أموالهم وفي نفوسهم الضغائن والحقود من باديس ومن بعده من أولادهم يرثه صغير عن كبير‏.‏

واتصل بتميم أن الناصر بن علناس يقع فيه في مجلسه ويذمه وأنه عزم على المسير إليه ليحاصره بالمهدية‏.‏

وأنه قد حالف بعض صنهاجة وزناتة وبني هلال ليعينوه على حصار المهدية‏.‏

فلما صح ذلك عند أرسل إلى أمراء بني رياح فأحضرهم إليه وقال‏:‏ أنتم تعلمون أن المهدية حصن منيع أكثره في البحر لا يقاتل منه في البر غير أربعة أبراج يحميها أربعون رجلًا وإنما جمع الناصر هذه العساكر إليكم‏.‏

فقالوا له‏:‏ الذي تقول حق ونحب منك المعونة فأعطاهم المال والسلاح من الرماح والسيوف والدروع والدرق فجمعوا قومهم وتحالفوا واتفقوا على لقاء الناصر‏.‏

وأرسلوا إلى من مع الناصر من بني هلال يقبحون عندهم مساعدتهم للناصر ويخوفونهم منه إن قوي وأنه يهلكهم بمن معه من زناتة وصنهاجة وأنهم إنما يستمر لهم المقام والاستيلاء على البلاد إذا تم الخلف وضعف السلطان‏.‏

فأجابهم بنو هلال إلى الموافقة وقالوا‏:‏ اجعلوا أول حملة تحملونها علينا فنحن ننهزم بالناس ونعود عليهم ويكون لنا ثلث الغنيمة‏.‏

فأجابوهم إلى ذلك واستقر الأمر‏.‏

وأرسل المعز بن زيري الزناتي إلى من مع الناصر من زناتة بنحو ذلك فوعدوه أيضًا أن ينهزموا فحينئذ رحلت رياح وزناتة جميعها وسار إليهم الناصر بصنهاجة وزناتة وبني هلال فالتقت العساكر بمدينة سبتة فحملت رياح على بني هلال وحمل المعز على زناتة فانهزمت الطائفتان وتبعهم عساكر الناصر منهزمين ووقع فيهم القتل فقتل فيمن قتل القاسم بن علناس أخو الناصر في نفر يسير وغنمت العرب جميع ما كان في العسكر من مال وسلاح ودواب وغير ذلك فاقتسموها على ما استقر بينهم وبهذه الوقعة تم للعرب ملك البلاد فإنهم قدموها في ضيق وفقر وقلة دواب فاستغنوا وكثرت دوابهم وسلاحهم وقل المحامي عن البلاد وأرسلوا الألوية والطبول وخيم الناصر بدوابها إلى تميم فردها وقال‏:‏ يقبح بي أن آخذ سلب ابن عمي‏!‏ فأرضى العرب بذلك‏.‏

  ذكر بناء مدينة بجاية

لما كانت هذه الوقعة بين بني حماد والعرب وقويت العرب اهتم تميم بن المعز لذلك وأصابه حزن شديد فبلغ ذلك الناصر وكان له وزير اسمه أبو بكر بن أبي الفتوح وكان رجلًا جيدًا يحب الاتفاق بينهم ويهوي دولة تميم فقال للناصر‏:‏ ألم أشر عليك أن لا تقصد ابن عمك وأن تتفقا على العرب فإنكما لو اتفقتما لأخرجتما العرب‏.‏

فقال الناصر‏:‏ لقد صدقت ولكن لا مرد لما قدر فأصلح ذات بيننا‏.‏

فأرسل الوزير رسولًا من عنده إلى تميم يعتذر ويرغب في الإصلاح فقبل تميم قوله وأراد أن يرسل رسولًا إلى الناصر فاستشار أصحابه فاجتمع رأيهم على محمد بن البعبع وقالوا له‏:‏ هذا رجل غريب وقد أحسنت إليه وحصل له منك الأموال والأملاك‏.‏

فأحضره وأعطاه مالًا ودواب وعبيدًا وأرسله فسار مع الرسول حتى وصل إلى بجاية وكانت حينئذ منزلًا فيه رعية من البربر فنظر إليها محمد بن البعبع وقال في نفسه‏:‏ إن هذا المكان يصلح أن يكون به مرسى ومدينة وسار حتى وصل إلى الناصر فلما أوصل الكتاب وأدى الرسالة قال للناصر‏:‏ معي وصية إليك وأحب أن تخلي المجلس فقال الناصر‏:‏ أنا لا أخفي عن وزيري شيئًا‏.‏

فقال‏:‏ بهذا أمرني الأمير تميم فقام الوزير أبو بكر وانصرف فلما خرج قال الرسول‏:‏ يا مولاي إن الوزير مخامر عليك هواه مع الأمير تميم لا يخفي عنه من أمورك شيئًا وتميم مشغول مع عبيده قد استبد بهم واطرح صنهاجة وغير هؤلاء ولو وصلت بعسكرك ما بت إلا فيها لبغض الجند والرعية لتميم وأنا أشير عليك بما تملك به المهدية وغيرها‏.‏

و ذكر له عمارة بجاية وأشار عليه أن يتخذها دار ملك ويقرب من بلاد إفريقية وقال له‏:‏ أنا أنتقل إليك بأهلي وأدبر دولتك فأجابه الناصر إلى ذلك وارتاب بوزيره وسار مع الرسول إلى بجاية وترك الوزير بالقلعة‏.‏

فلما وصل الناصر والرسول إلى بجاية أراه موضع الميناء والبلد والدار السلطانية وغير ذلك فأمر الناصر من ساعته بالبناء والعمل وسر بذلك وشكره وعاهده على وزارته إذا عاد إليه ورجعا إلى القلعة فقال الناصر لوزيره‏:‏ إن هذا الرسول محب لنا وقد أشار ببناء بجاية ويريد الانتقال إلينا فاكتب له جواب كتبه ففعل‏.‏

وسار الرسول وقد ارتاب به تميم حيث تجدد بناء بجاية عقيب مسيره إليهم وحضوره مع الناصر فيها وكان الرسول قد طلب من الناصر أن يرسل معه بعض ثقاته ليشاهد الأخبار ويعود بها فأرسل معه رسولًا يثق به فكتب معه‏:‏ إنني لما اجتمعت بتميم لم يسألني عن شيء قبل سؤاله عن بناء بجاية وقد عظم أمرها عليه واتهمني فانظر إلى من تثق به من العرب ترسلهم إلى موضع كذا فإني سائر إليهم مسرعًا وقد أخذت عهود زويلة وغيرها على طاعتك‏.‏

وسير الكتاب فلما قرأه الناصر سلمه إلى الوزير فاستحسن الوزير ذلك وشكره وأثنى عليه وقال‏:‏ لقد نصح وبالغ في الخدمة فلا تؤخر عنه إنفاذ العرب ليحضر معهم‏.‏

ومضى الوزير إلى داره وكتب نسخة الكتاب وأرسل الكتاب بخط الرسول إلى تميم وكتابًا منه يذكر له الحال من أوله إلى آخره‏.‏

فلما وقف تميم على الكتاب عجب من ذلك وبقي يتوقع له سببًا يأخذه به إلا أنه جعل عليه من يحرسه في الليل والنهار من حيث لا يشعر فأتى بعض أولئك الحرس إلى تميم وأخبره أن الرسول صنع طعامًا وأحضر عنده الشريف الفهري وكان هذا الشريف من رجال تميم وخواصه فأحضره تميم فقال‏:‏ كنت واصلًا إليك وحدثه أن ابن البعبع الرسول دعاني فلما حضرت عنده قال‏:‏ أنا في ذمامك أحب أن تعرفني مع من أخرج من المهدية فمنعته من ذلك وهو خائف فأوقفه تميم على الكتاب الذي بخطه وأمره بإحضاره فأحضره الشريف‏.‏

فلما وصل إلى باب السلطان لقيه رجل بكتاب العرب الذين سيرهم الناصر ومعهم كتاب الناصر إليه يأمره بالحضور عنده فأخذ الكتاب وخرج الأمير تميم فلما رآه ابن البعبع سقطت الكتب منه فإذا عنوان أحدها‏:‏ من الناصر بن علناس إلى فلان فقال له تميم‏:‏ من أين هذه الكتب فسكت فأخذها وقرأها فقال الرسول ابن البعبع‏:‏ العفو يا مولانا‏!‏ فقال‏:‏ لا عفا الله عنك‏!‏ وأمر به فقتل وغرقت جثته‏.‏

  ذكر ملك ألب أرسلان جند وصيران

في هذه السنة عبر ألب أرسلان جيحون وسار إلى جند وصيران وهما عند بخارى وقبر جده سلجوق بجند فلما عبر النهر استقبله ملك جند وأطاعه وأهدى له هدايا جليلة فلم يغير ألب أرسلان عليه شيئًا وأقره على ما بيده وعاد عنه بعد أن أحسن إليه وأكرمه ووصل

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة ابتديء بعمارة المدرسة النظامية ببغداد‏.‏

وفيها انقض كوكب عظيم وصار له شعاع كثير أكثر من شعاع القمر وسمع له صوت مفزع‏.‏

وفيها توفي محمد بن أحمد أبو الحسين بن الآبنوسي روى عن الدارقطني وغيره‏.‏

  ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وأربعمائة

  ذكر عهد ألب أرسلان بالسلطنة لابنه

في هذه السنة سار ألب أرسلان من مرو إلى رايكان فنزل بظاهرها ومعه جماعة أمراء دولته فأخذ عليهم العهود والمواثيق لولده ملكشاه بأنه السلطان بعده وأركبه ومشى بين يديه يحمل الغاشية‏.‏

وخلع السلطان على جميع الأمراء وأمرهم بالخطبة له في جميع البلاد التي يحكم عليها ففعل ذلك وأقطع البلاد فأقطع مازندران للأمير إينانج بيغو وبلخ لأخيه سليمان بن دواد جغري بك وخوارزم لأخيه أرسلان أرغو ومرو لابنه الآخر أرسلان شاه وصغانيان وطخارستان لأخيه إلياس وولاية بغشور ونواحيها لمسعود بن أرتاش وهو من أقارب السلطان وولاية

  ذكر استيلاء تميم على مدينة تونس

في هذه السنة سير تميم صاحب إفريقية عسكرًا كثيفًا إلى مدينة تونس وبها أحمد بن خراسان قد أظهر عليه الخلاف‏.‏

وسبب ذلك أن المعز بن باديس أبا تميم لما فارق القيروان والمنصورية ورحل إلى المهدية على ما ذكرناه استخلف على القيروان وعلى قابس قائد بن ميمون الصنهاجي وأقام بها ثلاث سنين ثم غلبته هوارة عليها فسلمها إليهم وخرج إلى المهدية فلما ولي الملك تميم بن المعز بعد أبيه رده إليها وأقام عليها إلى الآن ثم أظهر الخلاف على تميم والتجأ إلى طاعة الناصر بن علناس بن حماد فسير إليه تميم الآن عسكرًا كثيرًا فلما سمع بهم قائد بن ميمون علم أنه لاطاقة له بهم فترك القيروان وسار إلى الناصر فدخل عسكر تميم القيروان وخربوا دور القائد وسار العسكر إلى قابس وبها ابن خراسان فحصروه بها سنة وشهرين ثم أطاع ابن خراسان تميمًا وصالحه‏.‏

وأما قائد فإنه أقام عند الناصر ثم أرسل إلى أمراء العرب فاشترى منهم إمارة القيراون فأجابوه إلى ذلك فعاد إليها فبنى سورها وحصنها‏.‏

وهيت وغيرهما في هذه السنة سار شرف الدولة مسلم بن قريش بن بدران صاحب الموصل إلى السلطان ألب أرسلان فأقطعه الأنبار وهيت وحربى والسن والبوازيج ووصل إلى بغداد فخرج الوزير فخر الدولة بن جهير في الموكب فلقيه‏:‏ ونزل شرف الدولة بالحريم الطاهري وخلع عليه الخليفة‏.‏

  ذكر عدة حوادث

في العشر الأول من جمادى الأولى ظهر كوكب كبير له ذؤابة طويلة بناحية المشرق عرضها نحو ثلاث أذرع وهي ممتدة إلى وسط السماء وبقي إلى السابع والعشرين من الشهر وغاب ثم ظهر أيضًا آخر الشهر المذكور عند غروب الشمس كوكب قد استدار نوره عليه كالقمر فارتاع الناس وانزعجوا ولما أظلم الليل صار له ذوائب نحو الجنوب وبقي عشرة أيام ثم اضمحل‏.‏

وفيها في جمادى الآخرة كانت بخراسان والجبال زلزلة عظيمة بقيت تتردد أيامًا تصدعت منها الجبال وأهلكت خلقًا كثيرًا وانخسف منها عدة قرى وخرج الناس إلى الصحراء فأقاموا هناك‏.‏

وفيها في جمادى الأولى وقع حريق بنهر معلى فاحترق من باب الجريد إلى آخر السوق الجديد من الجانبين‏.‏

وفيها ولدت صبية بباب الأزج ولدًا برأسين ورقبتين ووجهين وأربع أيد على بدن واحد‏.‏

وفي جمادى الآخرة توفي الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي ومولده سنة سبع وثمانين وثلاثمائة وكان إمامًا في الحديث والفقه على مذهب الشافعي وله فيه مصنفات أحدها السنن الكبير وعشرة مجلدات وغيره من التصانيف الحسنة وكان عفيفًا زاهدًا ومات بنيسابور‏.‏

وفي شهر رمضان منها توفي أبو يعلى محمد بن الحسين بن الفراء الحنبلي ومولده سنة ثمانين وثلاثمائة وعنه انتشر مذهب أحمد رضي الله عنه وكان إليه قضاء الحريم ببغداد بدار الخلافة وهو مصنف كتاب الصفات أتى فيه بكل عجيبة وترتيب أبوابه يدل على التجسيم المحض تعالى الله عن ذلك وكان ابن تميمي الحنبلي يقول‏:‏ لقد خريء أبو يعلى الفراء على الحنابلة خرية لا يغسلها الماء‏.‏

  ثم دخلت سنة تسع وخمسين وأربعمائة

وعوده إلى طاعته

في هذه السنة عصى ملك كرمان وهو قرا أرسلان على السلطان ألب أرسلان‏.‏

وسبب ذلك أنه كان له وزير جاهل سولت له نفسه الاستبداد بالبلاد عن السلطان وأن صاحبه إذا عصى احتاج إلى التمسك به فحسن لصاحبه الخلاف على السلطان فأجاب إلى ذلك وخلع الطاعة وقطع الخطبة‏.‏

فسمع ألب أرسلان فسار إلى كرمان فلما قاربها وقعت طليعته على طليعة قرا أرسلان فانهزمت طليعة قرا أرسلان بعد قتال فلما سمع قرا أرسلان وعسكره بانهزام طليعتهم خافوا وتحيروا فانهزموا لا يلوي أحد على آخر فدخل قرا أرسلان إلى جيرفت وامتنع بها وأرسل إلى السلطان ألب أرسلان يظهر الطاعة ويسأل العفو عن زلته فعفا عنه وحضر عند السلطان فأكرمه وبكى وأبكى من عنده فأعاده إلى مملكته ولم يغير عليه شيئًا من حاله فقال للسلطان‏:‏ إن لي بنات تجهيزهن إليك وأمورهن إليك فأجابه إلى ذلك وأعطى كل واحدة منهن مائة ألف دينار سوى الثياب والإقطاعات‏.‏

ثم سار منها إلى فارس فوصل إلى إصطخر وفتح قلعتها واستنزل واليها فحمل إليه الوالي هدايا عظيمة جليلة المقدار من جملتها قدح فيروزج فيه منوان من المسك مكتوب عليه اسم جمشيد الملك وأطاعه جميع حصون فارس وبقي قلعة يقال لها بهنزاد فسار نظام الملك إليها وحصرها تحت جبلها وأعطى كل من رمى بسهم وأصاب قبضة من الدنانير ومن رمى حجرًا ثوبًا نفيسًا ففتح القلعة في اليوم السادس عشر من نزوله ووصل السلطان إليه بعد الفتح فعظم محل نظام الملك عنده فأعلى منزلته وزاد في تحكيمه‏.‏

  ذكر عدة حوادث

في المحرم منها توفي الأغر أبو سعد ضامن البصرة على باب السلطان بالري وعقدت البصرة وواسط على هزراسب بثلاثمائة ألف دينار‏.‏

وفي صفر منها وصل إلى بغداد شرف الملك أبو سعد المستوفي وبنى على مشهد أبي حنيفة رضي الله عنه مدرسة لأصحابه وكتب الشريف أبو جعفر بن البياضي على القبة التي أحدثها‏:‏ ألم تر أن العلم كان مشتتًا فجمعه هذا المغيب في اللحد كذلك كانت هذه الأرض ميتةً فأنشرها فضل العميد أبي سعد وفيها في جمادى الأولى وصلت أرسلان خاتون أخت السلطان ألب أرسلان وهي زوجة الخليفة إلى بغداد واستقبلها فخر الدولة بن جهير الوزير على فراسخ‏.‏

وفيها في ذي القعدة احترقت تربة معروف الكرخي رحمة الله عليه وسبب حريقها أن قيمها كان مريضًا فطبخ لنفسه ماء الشعير فاتصلت النار بخشب وبواري كانت هناك فأحرقته واتصل الحريق فأمر الخليفة أبا سعد الصوفي شيخ الشيوخ بعمارتها‏.‏

وفيها في ذي القعدة فرغت عمارة المدرسة النظامية وتقرر التدريس بها للشيخ أبي إسحاق الشيرازي فلما اجتمع الناس لحضور الدرس وانتظروا مجيئه تأخر فطلب فلم يوجد‏.‏

وكان سبب تأخره أنه لقيه صبي فقال له‏:‏ كيف تدرس في مكان مغصوب فتغيرت نيته عن التدريس بها فلما ارتفع النهار وأيس الناس من حضوره أشار الشيخ أبو منصور بن يوسف بأبي نصر بن الصباغ صاحب كتاب الشامل وقال‏:‏ لا يجوز أن ينفصل هذا الجمع إلا عن مدرس ولم يبق ببغداد من لم يحضر غير الوزير فجلسس أبو نصر للدرس وظهر الشيخ أبو إسحاق بعد ذلك ولما بلغ نظام الملك الخبر أقام القيامة على العميد أبي سعد ولم يزل يرفق بالشيخ أبي إسحاق حتى درس بالمدرسة وكانت مدة تدريس ابن الصباغ عشرين يومًا‏.‏

وفيها في ذي القعدة قتل الصليحي أمير اليمن بمدينة المهجم قتله أحد أمرائها وأقيمت الدعوة العباسية هناك وكان قد ملك مكة على ما ذكرناه سنة خمس وخمسين وأمن الحجاج في أيامه فأثنوا عليه خيرًا وكسا البيت بالحرير الأبيض الصيني ورد حلى البيت إليه وكان بنو حسن قد أخذوه وحملوه إلى اليمن فابتاعه الصليحي منهم‏.‏

وفيها توفي عمر بن إسماعيل بن محمد أبو علي الطوسي قاضيها وكان يلقب العراقي لطول مقامه ببغداد وتفقه على أبي طاهر الأسفراييني الشافعي وأبي محمد الشاشي وغيرهما‏.‏

  ثم دخلت سنة ستين وأربعمائة

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة كانت حرب بين شرف الدولة بن قريش وبين كلاب بالرحبة وهم في طاعة العلوي المصري فكسرهم شرف الدولة وأخذ أسلابهم وأرسل أعلامًا كانت معهم عليها سمات المصري إلى بغداد وكسرت وطيف بها في البلد وأرسلت الخلع إلى شرف الدولة‏.‏

وفيها في جمادى الأولى كانت بفلسطين ومصر زلزلة شديدة خربت الرملة وطلع الماء من رؤوس الآبار وهلك من أهلها خمسة وعشرون ألف نسمة وانشقت الصخرة بالبيت المقدس وعادت بإذن الله تعالى وعاد البحر من الساحل مسيرة يوم فنزل الناس إلى أرضه يلتقطون منه فرجع الماء عليهم فأهلك منهم خلقًا كثيرًا‏.‏

وفيها في رجب ورد أبو العباس الخوافي بغداد عميدًا من جهة السلطان‏.‏

وفيها عزل فخر الدولة بن جهير من وزارة الخليفة فخرج من بغداد إلى نور الدولة دبيس بن مزيد بالفلوجة وأرسل الخليفة إلى أبي يعلى والد الوزير أبي شجاع يستحضره ليوليه الوزارة وكان يكتب لهزارسب بن بنكير فسار فأدركه أجله في الطريق فمات ثم شفع نور الدولة في فخر الدولة بن جهير فأعيد إلى الوزارة سنة إحدى وستين في صفر‏.‏

وفيها كان بمصر غلاء شديد وانقضت سنة إحدى وستين وأربعمائة‏.‏

وفيها حاصر الناصر بن علناس مدينة الأربس بإفريقية ففتحها وأمن أهلها‏.‏

وفيها في المحرم توفي الشيخ أبو منصور بن عبد الملك بن يوسف ورثاه ابن الفضل وغيره من الشعراء وعم مصابه المسلمين وكان من أعيان الزمان فمن أفعاله أنه تسلم المارستان العضدي وكان قد دثر واستولى عليه الخراب فجد في عمارته وجعل فيه ثمانية وعشرين طبيبًا وثلاثة من الخزان إلى غير ذلك واشترى له الأملاك النفيسة بعد أن كان ليس به طبيب ولا دواء وكان كثير المعروف والصلات والخير ولم يكن يلقب في زمانه أحد بالشيخ الأجل وفي المحرم أيضًا توفي أبو جعفر الطوسي فقيه الإمامية بمشهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام‏.‏

  ثم دخلت سنة إحدى وستين وأربعمائة

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة في صفر أعيد فخر الدولة بن جهير إلى وزارة الخليفة على ما ذكرناه فلما عاد مدحه ابن الفضل فقال‏:‏ قد رجع الحق إلى نصابه وأنت من كل الورى أولى به ما كنت إلا السيف سلته يد ثم أعادته إلى قرابه وهي طويلة‏.‏

وفي شعبان احترق جامع دمشق‏.‏

وكان سبب احتراقه أنه وقع بدمشق حرب بين المغاربة أصحاب المصريين والمشارقة فضربوا دارًا مجاورة للجامع بالنار فاحترقت واتصلت بالجامع وكانت العامة تعين المغاربة فتركوا القتال واشتغلوا بإطفاء النار من الجامع فعظم الخطب واشتد الأمر وأتى الحريق على الجامع فدثرت محاسنه وزال ما كان فيه من الأعمال النفيسة‏.‏

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة أقبل ملك الروم من القسطنطينية في عسكر كثيف إلى الشام ونزل على مدينة منبج ونهبها وقتل أهلها وهزم محمود بن صالح بن مرداس وبني كلاب وابن حسان الطائي ومن معهما من جموع العرب ثم إن ملك الروم ارتحل وعاد إلى بلاده ولم يمكنه المقام لشدة الجوع‏.‏

وفيها سار أمير الجيوش بدر من مصر في عساكر كثيرة إلى مدينة صور وحصرها وكان قد تغلب عليها القاضي عين الدولة بن أبي عقيل فلما حصره أرسل القاضي إلى الأمير قرلوا مقدم الأتراك المقيمين بالشام يستنجده فسار في اثني عشر ألف فارس فحصر مدينة صيدا وهي لأمير الجيوش بدر فرحل حينئذ بدر فعاد الأتراك فعاود بدر حصر صور برًا وبحرًا سنة وضيق على أهلها حتى أكلوا الخبز كل رطل بنصف دينار ولم يبلغ غرضه فرحل عنها‏.‏

وفيها صارت دار ضرب الدنانير ببغداد في يد وكلاء الخليفة وسبب ذلك أن البهرج كثر في أيدي الناس على السكك السلطانية وضرب اسم ولي العهد على الدينار وسمي الأميري ومنع من التعامل بسواه‏.‏

وفيها ورد رسول صاحب مكة محمد بن أبي هاشم ومعه ولده إلى السلطان ألب أرسلان يخبره بإقامة الخطبة للخليفة القائم بأمر الله وللسلطان بمكة وإسقاط خطبة العلوي صاحب مصر وترك الأذان بحي على خير العمل فأعطاه السلطان ثلاثين ألف دينار وخلعًا نفيسة وأجرى له كل سنة عشرة آلاف دينار وقال‏:‏ إذا فعل أمير المدينة مهنأ كذلك أعطيناه عشرين ألف دينار وكل سنة خمسة آلاف دينار‏.‏

وفيها تزوج عميد الدولة بن جهير بابنة نظام الملك بالري وعاد إلى بغداد‏.‏

وفيها في شهر رمضان توفي تاج الملوك هزراسب بن بنكير بن عياض بأصبهان وهو عائد من عند السلطان إلى خوزستان وكان قد علا أمره وتزوج بأخت السلطان وبغى على نور الدولة دبيس بن مزيد وأغرى السلطان به ليأخذ بلاده فلما مات سار دبيس إلى السلطان ومعه شرف الدولة مسلم صاحب الموصل فخرج نظام الملك فلقيهما وتزوج شرف الدولة بأخت السلطان التي كانت امرأة هزارسب وعادا إلى بلادهما من همذان‏.‏

وفيها كان بمصر غلاء شديد ومجاعة عظيمة حتى أكل الناس بعضهم بعضًا وفارقوا الديار المصرية فورد بغداد منهم خلق كثير هربًا من الجوع وورد التجار ومعهم ثياب صاحب مصر وآلاته نهبت من الجوع وكان فيها أشياء كثيرة نهبت من دار الخلافة وقت القبض على الطائع لله سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة ومما نهب أيضًا في فتنة البساسيري وخرج من خزائنهم ثمانون ألف قطعة بلور كبار وخمسة وسبعون ألف قطعة من الديباج القديم وأحد عشر ألف كزاغند وعشرون ألف سيف محلى وقال ابن الفضل يمدح القائم بأمر الله ويذكر الحال بقصيدة فيها‏:‏ قد علم المصري أن جنوده سنو يوسف منها وطاعون عمواس أقامت به حتى استراب بنفسه وأوجس منه خيفة أي إيجاس في أبيات‏.‏

وفيها توفي أبو الجوائز الحسن بن علي بن محمد الواسطي كان أديبًا شاعرًا حسن القول فمن قوله‏:‏ واحسرتي من قولها‏:‏ خان عهودي ولها وحق من صيرني وقفًا عليها ولها ما خطرت بخاطري إلا كستني ولها وتوفي محمد بن أحمد أبو غالب بن بشران الواسطي الأديب وانتهت الرحلة إليه في الأدب وله شعر فمنه في الزهد‏:‏ لم يجتمع شمل أهل قصر إلا قصاراهم الشتات وإنما العيش مثل ظل منتقل ما له ثبات وفيها توفي القاضي أبو الحسين محمد بن إبراهيم بن حزم قاضي دمشق وأبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي العجائز الخطيب بدمشق‏.‏

  ثم دخلت سنة ثلاث وستين وأربعمائة

  ذكر الخطبة للقائم بأمر الله والسلطان بحلب

في هذه السنة خطب محمود بن صالح بن مرداس بحلب لأمير المؤمنين القائم بأمر الله وللسلطان ألب أرسلان‏.‏

وسبب ذلك أنه رأى إقبال دولة السلطان وقوتها وانتشار دعوتها فجمع أهل حلب وقال‏:‏ هذه دولة جديدة ومملكة شديدة ونحن تحت الخوف منهم وهم يستحلون دماءكم لأجل مذاهبكم والرأي أن نقيم الخطبة قبل أن يأتي وقت لا ينفعنا فيه قول ولا بذل فأجاب المشايخ ذلك ولبس المؤذنون السواد وخطبوا للقائم بأمر الله والسلطان فأخت العامة حصر الجامع وأرسل الخليفة إلى محمود الخلع مع نقيب النقباء طراد بن محمد الزينبي فلبسها ومدحه ابن سنان الخفاجي وأبو الفتيان بن حيوس وقال أبو عبد الله بن عطية يمدح القائم بأمر الله ويذكر الخطبة بحلب ومكة والمدينة‏:‏ كم طائع لك لم تجلب عليه ولم تعرف لطاعته غير التقى سببا هذا البشير بإذعان الحجاز وذا داعي دمشق وذا المبعوث من حلبا